أكتب لأُغير وأتغير..أبحث عن المختلف والأفضل.. أم قبل كل شيء.. وسيدة أعمال رغم كل شيء..وناشطة أجتماعية بعد كل شيء.. ممتنة لعائلتي.. وفخورة بمن حولي من أصدقاء..
إصداراتي
نحن والمتثيقفون
2017-05-31
الثقافة بمفهومها العام والشامل تعني شمولية المعرفة والاطلاع والفطنة في استيعاب التطورات المحيطة، ونمو المجتمعات والتصرف تجاهها بطريقة إبداعية خلاقة، والبراعة في ذلك هي ما يميز المثقف عن غيره.
وقد عرف الفيلسوف الألماني إيمانويل الثقافة بأنها «التنوير الذي يعني انعتاق الإنسان من مرحلة عدم النضج بوصوله إلى نور المعرفة والتفكير بمنطق وشكل متوازن عميق وسليم من دون الاعتماد على ما تم تلقينه إياه في الصغر من معلومات ومبادئ قد تثبت خطأها في زمن مختلفة وظروف مغايرة لما نشأت فيه». ومن هنا تأتي أهمية تسليط الضوء على تعريف آخر يجعلنا نحدد من هو المثقف؟ وهل اختلفت معاير ذلك المثقف عبر الأزمان؟ الفيلسوف والروائي الفرنسي جان بول سارتر عرف المثقف بأنه «الإنسان الذي يدس أنفه في كل شيء»، ومما لا شك فيه أن دس الأنف يجعله قادراً على رؤية المجتمع بنظرة شموليه، تجعله قادراً على فهم ما يدور فيه، وبالتالي التأثير إيجابياً في غربلة ما يحدث، وتوجيه الأقل ثقافة إلى ما يجب أن يتجهوا إليه لمصلحة المجتمع وأفراده. أما عالم الاجتماع الأميركي بارسونز فهو يربط ثقافة المثقف بإنتاجيته الثقافية والفكرية.
تعريفات الثقافة والمثقفين تنوعت وتعددت بتنوع البيئات والثقافات والأعراق والأجناس، ولكن لو سألنا أي شخص عادي ينتمي للعالم العربي عن تعريف للمثقف لحصره بمن تعمق بثقافة الأدب والكلمة المحصورة بين دفتي كتاب، سواء أكان ذلك تأليفاً أم قراءة. أي ببساطة هو من تجاوز محدودية إطار تخصصه بالقراءة في الأدب العام التي من خلالها أصبح موسوعة ثقافية واسعة تضم في عقلها وإدراكها أرشيفاً كبيراً للأدباء بمؤلفاتهم على اختلاف أماكنهم وأزمانهم.
من وجهة نظري المتواضعة، أن هذا التعريف كان كافياً في زمن مضي لا يُدرج تحت مسماه إلا من نال اللقب بشرف، وذلك لصعوبة إيجاد المعلومة المختصرة والملخص الذي يجعل الأدب والأدباء في متناول «المتثيقفين» بضغطه زر على شاشته الصغيرة. مفهوم المثقف في عصرنا هذا الذي يضم تحت لوائه كل من ألف كتاباً أو حفظ أسماء فطاحل الأدب العربي والعالمي وقرأ ملخصات عن مؤلفاتهم ورددها كالببغاء في كل مكان، متباهياً بمعرفته لقشرتها من دون التعمق إلى عمقها، يفضحه سلوكه خارج دائرة صم أسماء الكتب ومحتواها وتسميعها في حساباتهم في مواقع التواصل أو غيرها، التي يحاولون من خلالها إلصاق شرف الثقافة بشخوصهم التي لا تستحقها. وما إن يأتي الاختبار الحقيقي لثقافتهم في حواراتهم وإجاباتهم على أسئلة أو آراء تخص الشأن العام خارج نطاق الكاتب العالمي فلان أو الأديب العربي فلان حتى تظهر ضحالة الثقافة ومخزونها لديهم. المثقفون في عصرنا الحالي هم من يجيدون ثقافة التحاور، البارعون في النقاشات المتشعبة الاتجاهات التي لا تحصر في نقد رواية أو استخلاص جماليات قصيدة، المثقف المعاصر هو من يملك القدرة على الغوص إلى عمق مخزونه الأدبي الذي اكتسبه من القراءة الحقيقية لـ«يسكبه» خبرة يسهم فيها في إحداث التغير والتغيير في أحداث مجتمعه المختلفة، كإنسان مثقف يؤمن بدوره القيادي كفرد مؤثر بما حباه الله من ثقافة وحضور في توجيه الغير ممن هم أقل ثقافة أو أصغر سناً، أو من يحتاجون إلى إعادة توجيه غيرهم لما فيه خير للمجتمع ككل، بعيداً عن العزلة التي يحيط بها أقزام الثقافة أنفسهم داخل أبراج ثقافتهم العالية التي يحتمون بها خوفاً من الانهزام عندما يأتي الاختبار الحقيقي لثقافتهم. من أهم الاختبارات أيضاً التي ينجح بها قليل ويفشل فيها الكثير، القدرة على تقبل الرأي الآخر عند الاختلاف. مبدأ إن لم تكن معي فأنت ضدي والحدة في النقاش التي تحوله إلى خلاف بعد أن كان مجرد اختلاف لا تتناسب مع آفاق الثقافة الواسعة التي لا تقف عند حاجز قناعة معينة تخالف طبيعة تباين البشر، ابتداء من صفاتهم الفسيولوجية إلى معتقداتهم وآرائهم وأفكارهم ومبادئهم.
تقبل النقد أيضاً اختبار يغربل عميق الثقافة من ضحلها. فالمثقف صادق الثقافة الواعي يتقبل نقد الآخرين، يرد على مؤدب النقد باحترام يليق بثقافته، ويكتفي بـ«سلاماً» مع جاهل ضَل في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه بهجومه وقذفه وسبه أحسن صنعاً، فخسر عمله وخسر إنسانيته وخسر احترام الناس له، على رغم كل ما التهمه عقله من قشور الثقافة التي لم تسمن أخلاقه ولم تغنيها عن جوع الثقافة. للأسف.. في عصرنا الحالي أصبحت للثقافة سوق رائجة ككل شيء في هذا الزمن، وأصبحت سوق الثقافة مليئة بكل من «هب ودب» أصلي المعرفة ومزيفها، والمؤلم أن زخم «المتثيقفين» الذي أغرقت به أسواق الثقافة والمعرفة والأدب جعلت المثقف الحقيقي كالعملة النادرة التي توارت خلف غبار الزيف والتي أصبح علينا أن نعيدها بقوة إلى واجهة المشهد الثقافي، لأن حضارات الأمم خلدت بإنجازات مثقفيها. فكيف السبيل إلى ذلك؟ وهل من حلول؟